اخبار

حكم المصافحة بعد الصلاة مباشرة، وقول المصلي للمصلي الذي بجواره: “حَرَمًا”، أو “تَقَبَّلَ اللهُ”؟

السؤال
ما رأيكم دام فضلكم في حكم المصافحة بعد الصلاة مباشرة، وقول المصلي للمصلي الذي بجواره: “حَرَمًا”، أو “تَقَبَّلَ اللهُ”؟ وجزاكم الله خيرًا.
المفتي: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
حكم المصافحة بين المصلين عقب الصلاة
حكم دعاء المصلي لمن يجاوره بالقبول بعد الصلاة
حث الشرع الشريف على دعاء المسلم لأخيه
مشروعية الدعاء بالقبول في خواتيم الطاعات والعبادات والأدلة على ذلك
ما ورد عن السلف الصالح في الدعاء بقبول العبادة عقب الفراغ منها
حرص المسلم على قبول طاعته
ما ورد في السنة النبوية بالدعاء بقبول الصلاة عقب الفراغ منها
حكم قول المصلي لمن يجاوره حرمًا بعد الصلاة
الخلاصة
حكم المصافحة بين المصلين عقب الصلاة
المصافحةُ عقبَ الصَّلاةِ من محاسنِ العاداتِ التي درجَ عليها المسلمونَ في كثيرٍ من الأعصارِ والأمصارِ، وهي من السُّلوكياتِ الحسنةِ التي تبعث الأُلْفَة بين الناس، وتقوِّي أواصر المودة بينهم، كما أنَّها ترجمةٌ عمليَّةٌ للتسليم من الصَّلاة، ومن مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة أن تُتَرجم العبادة إلى سلوك وممارسة وحسن معاملة.
وهذه المصافَحة دائرةٌ بين الإباحة والاستحباب، وقد نصَّ جماعةٌ من العلماء على استحبابِها؛ مستشهدين بما رواه الإمام البخـاري في “صحيحه” عن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنـه قَالَ: “خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ”. قَالَ أبو جحيفة: “فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ”.
قال الإمام المحبُّ الطَّبري الشافعي (ت694هـ): [ويُسْتَأْنَسُ بذلك لما تطابق عليه الناس من المصافحة بعد الصلوات في الجماعات، لا سيَّما في العصر والمغرب، إذا اقترن به قصدٌ صالحٌ؛ من تبركٍ أو تودُّدٍ أو نحوه] اهـ نقلًا عن العلَّامَة ابن علان الصديقي الشافعي في “الفُتوحات الرَّبَّانيَّة شرح الأذكار النووية” (5/ 397، ط. جمعية النشر والتأليف الأزهرية).
واختار الإمام النووي (ت676هـ) في “المجموع شرح المهذب” (3/ 488، ط. دار الفكر): [أنَّ مصافحة من كان معه قبل الصلاة مباحة، ومصافحة من لم يكن معه قبل الصلاة سُنَّة] اهـ.
وقال أيضًا في “الأذكار” (ص: 266، ط. دار الفكر): [واعلم أنَّ هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاءٍ، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر: فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سُنَّةٌ، وكونُهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرَّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يُخْرِجُ ذلك البعضَ عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها] اهـ.
ثم نقل عن الإمام العز بن عبد السلام (ت660هـ) أن المصافحة عَقِيبَ الصبح والعصر من البدع المباحة.
وأما قول بعض العلماء بكراهتها فقد عللوه بأنَّ المواظبة عليها قد تُؤَدِّي بالجاهل إلى اعتقاد أنها من تمام الصلاة أو سننها المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومفهوم هذا التعليل: أنه إذا لم يعتقد الناس ذلك فلا كراهةٍ، والقائلون بالكراهة قد نصَّوا على استحباب المصافحة عقب الصلاة إذا مدَّ المصلي يده؛ لِمَا يترتب على الامتناع عن المصافحة من الأذى وكسر خواطر المسلمين وجرح مشاعرهم، والخروج عن حد اللِّياقة والذَّوق، واستجلاب العداوة والبغضاء، ودفعُ ذلك كلِّه مقدَّمٌ على مراعاة الأدب بتجنب الشيء المكروه عندهم؛ إذ من المقرر شرعًا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
قال العلَّامة القاري في “مرقاة المفاتيح” (7/ 2963، ط. دار الفكر): [مع هذا إذا مدَّ مسلمٌ يده للمصافحة، فلا ينبغي الإعراض عنه بجذب اليد؛ لما يترتب عليه من أذًى يزيد على مراعاة الأدب] اهـ.

حكم دعاء المصلي لمن يجاوره بالقبول بعد الصلاة
أما دعاء المصلي بعد الصلاة لمن يجاوره أو لمن معه من المأمومين بالقبول؛ كأن يقول له: “تقبل الله”، أو “بالقَبول”، فيرد عليه بقوله: “تقبل الله منا ومنكم”، أو يقول له: “حرمًا”، فيجيبه: “جمعًا”، أو نحو ذلك، فهذا كله من الدعاء المستحسن شرعًا، والدعاء مأمور به على كل حال؛ قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وقال سبحانه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: 55]، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» أخرجه ابن ماجة في “السنن” وأحمد، وأبو داود الطيالسي في “المسند”، والطبراني في “المعجم الكبير”، والبخاري في “الأدب المفرد”، وصححه الحاكم في “المستدرك”.

حث الشرع الشريف على دعاء المسلم لأخيه
قد رغَّب الشَّرع الشَّريف في دعاء المسلم لأخيه، وبيَّن أنَّه مستجابٌ؛ فعن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه يقول: حدثَّني الصنابحي أنه سمع أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: “إن دعاء الأخ لأخيه في الله عز وجل يستجاب” أخرجه الإمام أحمد في “الزهد”، والبيهقي في “شعب الإيمان”، والبخاري في “الأدب المفرد”، وابن المبارك في “الجهاد”، والدولابي في “الكُنَى والأسماء”.
قال العلامة القاري في “مرقاة المفاتيح” (4/ 1526، ط. دار الفكر): [قيل: كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة ليدعو له الملَك بمثلها، فيكون أعون للاستجابة] اهـ.

مشروعية الدعاء بالقبول في خواتيم الطاعات والعبادات والأدلة على ذلك
إذا كان الدعاء في الأحوال والأوقات والأمكنة الفاضلة تأكد استحبابه وزادت فضيلتُه، ورُجِيَ قبولُه وإجابتُه، ومن هذه الأوقات: الدعاء عقب الصلوات المكتوبات؛ قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ﴾ [النساء: 103]، وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» أخرجه الترمذي وحسَّنه، والنسائي في “السنن الكبرى”.
وجاءت النصوص الشرعية بمشروعية الدعاء بالقبول في خواتيم الطاعات والعبادات:
فقال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127].
وقال حكايةً عن السيدة مريم عليها السلام: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: 35].
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “جزء في التهنئة في الأعياد” (ص: 44، ط. دار البشائر الإسلامية): [وقد ورد في خصوص “تقبَّل الله” دليل قوي لمشروعيَّةِ ذلك لمن فعل مأموراته أن يسأل الله تعالى يتقبل الله منه ذلك، وهو ما حكى الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام وولده حين بنيا الكعبة؛ حيث قال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ..﴾ الآية] اهـ.
واستحبت الشريعة للمسلمين أن يُهَنِّئَ بعضُهم بعضًا ويدعو بعضهم لبعض بالقبول في خواتيم العبادات؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو للحاج عند تمام حجه، ولصائم رمضان عند فطره، وللتائب من الذنب عند توبته؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أريد هذه النَّاحية الحج، فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: «يَا غُلَامُ، زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى، وَوَجَّهَكَ الْخَيْرَ، وَكَفَاكَ الْهَمَّ»، فلما رجع الغلام سلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرفع رأسه إليه وقال: «يَا غُلَامُ، قَبِلَ اللهُ حَجَّكَ، وَكَفَّرَ ذَنْبَكَ، وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ» أخرجه الإمام الطَّبراني في “الكبير” و”الأوسط”، والإمام ابن السني في “عمل اليوم الليلة”.
وقد صَّنف جماعةٌ من العلماء في استحباب الدعاء بالقبول عند الفراغ من العبادات، واستحباب التهنئة عند حصول النعم؛ كالحافظ ابن حجر العسقلاني في “جزء التهنئة في الأعياد”، والحافظ الجلال السيوطي في “وصول الأماني بأصول التهاني”، والعلامة الزرقاني في “رسالة في التهنئة والتعزية والإصلاح بين الناس”، كما تُستَحَبُّ التهنئةُ أيضًا على حصول النعم الدينية والدنيوية؛ كالدعاء لمن اشترى ثوبًا جديدًا، ولمن وُلِدَ له مولودٌ. وقد يجتمع استحباب الدعاء بالقبول والتهنئة بالنعمة؛ كما في العيد؛ حيث الدعاء بقبول العبادة السابقة؛ صومًا أو حجًّا أو أعمالًا صالحة في العشر الأول من ذي الحجة، والتهنئة بقدوم العيد، بل إنَّ الدُّعاء بالقبول والتهنئة بالنعمة يجتمعان على مورد واحد؛ لأن القبول من الله أعظم نعمة، والتهنئة على ذلك مقدَّمة على غيره.
ودعاءُ المسلمِ لأخيه بقبول العبادة عقب الفراغ منها وارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة العيد، ومأثور عن الصحابة والتابعين والسلف الصالحين؛ فعن خالد بن معدان قال: لقيت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه في يوم عيد، فقلت: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم، تقبل الله منا ومنك، قال واثلة: لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيدٍ، فقلت: تقبل الله منا ومنك، قال: «نَعَمْ، تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ» أخرجه الطبراني في “المعجم الكبير” و”الدعاء”، والبيهقي في “السنن الكبرى”.

ما ورد عن السلف الصالح في الدعاء بقبول العبادة عقب الفراغ منها
على هذا درج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم سلفًا وخلفًا؛ فعن جُبَير بن نفير قال: “كان أصحاب النبي صلى اللهُ عليه وآله وسلَّم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبَّل الله منا ومنك” أخرجه المحاملي في “المحامليات”، وإسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (2/ 446، ط. دار المعرفة)، وحسّنه السيوطي والقسطلاني.
وعن عبد الله بن يوسف قال: “سألتُ اللّيث بن سعدٍ عما يقول الناس بعضهم لبعضٍ في أعيادهم: تقبل الله منا ومنكم وَغفر لنا وَلكم؟ فَقَالَ اللَّيْث: أدْركْتُ النَّاس وهم يَقُولُونَ ذَلِك بَعضهم لبَعض، وَفِيهِمْ إِذْ ذَاك بَقِيَّة. قَالَ: وَكَانَ ابْن سِيرِين لَا يزِيد أَن يَقُول للرجل إِذا قدم من حج أَو غَزْوَة أَو فِي عيد: قَبِلَ اللهُ منا ومنكم، وَغفر لنا وَلكم” أخرجه ابن الأبار في “التكملة لكتاب الصلة” (2/ 171، ط. دار الفكر).
وعن محمد بن حرب الحمصي قال: “صلّى إلى جانبي محمد بن زياد يوم عيد، فلما سلم الإمام قال: تقبل الله منا ومنكم، وزكّى أعمالنا وأعمالكم، وجعلها في موازيننا، فقلت له: يا أبا سفيان، كان السلف يفعل هذا؟ قال: نعم، إذا صلى الإمام فعل ذلك، فقال: تقبل الله منا ومنكم، فقلت: أبو أمامة كان يفعل ذلك؟ قال: نعم” أخرجه ابن الشجري في “الأمالي” (2/ 70، ط. دار الكتب العلمية).
وعن صفوان بن عمرو السكسكي قال: “سمعت عبد الله بن بسر، وعبد الرحمن بن عائذ، وجبير بن نفير، وخالد بن معدان، يقال لهم في أيام الأعياد: تقبل الله منا ومنكم، ويقولون ذلك لغيرهم” أخرجه قوام السنة في “الترغيب والترهيب” (1/ 251، ط. دار الحديث).
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (2/ 295-296، ط. مكتبة القاهرة): [قال أحمد رحمه الله: ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: “تقبل الله منا ومنك”، وقال حرب: سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبل الله ومنكم؟ قال: “لا بأس به؛ يرويه أهل الشام عن أبي أمامة رضي الله عنه”، قيل: وواثلة بن الأسقع رضي الله عنه؟ قال: “نعم”، قيل: فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد؟ قال: “لا”. وذكر ابن عقيل في تهنئة العيد أحاديث؛ منها: أن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم رضي الله عنهم، فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: “تقبل الله منا ومنك”، وقال أحمد: إسناد حديث أبي أمامة إسناد جيد، وقال علي بن ثابت: سألت مالك بن أنس رحمه الله منذ خمس وثلاثين سنة، وقال: “لم يزل يُعرَف هذا بالمدينة”] اهـ.

حرص المسلم على قبول طاعته
الأصل أن يكون المسلم عقب العبادة مهمومًا بقبولها؛ مصداقًا لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله! قولُ الله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: «لَا يا ابْنَة أبي بَكْرٍ -أو يَا ابْنَةَ الصّدِيقِ-، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيخافُ أنْ لا يُقْبَل مِنْهُ» رواه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وعبْدُ بن حُمَيْدٍ في “مسنديهما”، والترمذي وابن ماجه في “سننهما”، وابن أبي الدنيا في “نعت الخائفين”، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في “تفاسيرهم”، والحاكم في “المستدرك” -وصحَّحَه-، والبيهقي في “شعب الإيمان”.
وقال سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “كونوا لقَبول العمل أشدَّ همًّا منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]” أخرجه ابن أبي الدنيا في “الإخلاص والنية”، وهذا الهمُّ القلبي يُطلِقُ اللسانَ بطلب قبول العبادة؛ فإنَّ اللسَانَ ترجمان الجَنَان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَنِ الْقَلْبِ اللِّسَانُ» أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”، والطبراني في “مسند الشاميين”، ومن طريقه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”، من حديث قبيصة بن ذُؤَيْبٍ رضي الله عنه، بل إذا غفل القلب عن هم القبول فإنَّ إجراء طلبه على اللسان هو خير وسيلة لشغل القلب به؛ كما في الأمر بكثرة الذكر باللسان وإن كان القلب غافلًا حتى يثمر الحضور مع المذكور، وكما في استجلاب الخشوع بالتباكي إذا لم يُسعف البكاء، وكذلك كان شأن السلف الصالح؛ فكان أشد ما يشغلهم بعد الفراغ من العبادة رجاء قبولها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول في آخر ليلة من شهر رمضان: “مَن هذا المقبولُ منا فنُهَنِّيْهِ؟ ومن هذا المحرومُ المردودُ فنُعَزِّيِّهِ؟ أيُّها المقبولُ هنيئًا هنيئًا! أيُّها المحرومُ المردودُ جبر الله مصيبتَك!” أخرجه الإمام محمد بن نصر المروزي في “قيام الليل”، وابن الشجري وأبو الفتح المقدسي في “أماليهما”.
وكان عدي بن أرطاة، يخطب بعد انقضاء شهر رمضان فيقول: “كأن كبدًا لم تظمأ، وكأن عينًا لم تسهر، فقد ذهب الظمأ وبَقِيَ الأجر، فيا ليت شعري من المقبول منا فنُهَنِّيْهِ، ومن المردود منا فنُعَزِّيِّهِ؟ فأما أنت أيها المقبول فهنيئًا هنيئًا! وأما أنت أيها المردود فجبر الله مصيبتك!” ثم يبكي ويبكي. أخرجه الفريابي في “الصيام”، ومن طريقه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”، وقال عبد العزيزِ بنُ أبي روَّاد: “أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ؛ أيقبلُ منهُم أم لا؟” ذكره الحافظ ابن رجب في “لطائف المعارف” (ص: 209، ط. دار ابن حزم)، ولا فرقَ بين الصوم والصلاة والحج في ذلك، فكلها عبادات يشرع الدعاء بقبولها عقب الفراغ منها.

ما ورد في السنة النبوية بالدعاء بقبول الصلاة عقب الفراغ منها
هذا، مع أنَّ السنة النبوية الشريفة قد رُوِيَ فيها الأمر بخصوص الدعاء بقبول الصلاة عقب الفراغ منها؛ وذلك في حديث نهشل بن سعيد الدَّارِمي، عن الضَّحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ لَقِيَ أَخَاهُ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِن الْجُمُعَةِ فَلْيَقُلْ: تَقَبَّلُ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ؛ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ أَدَّيْتُمُوهَا إِلَى رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ» رواه الحافظ أبو نعيم في “تاريخ أصبهان” والديلمي في “مسند الفردوس”.
وهذا الحديث من طريق نهشل بن سعيد، ونسخته عن الضحاك بن مزاحم وإن ضعّفها بعضُ الحفّاظ إلّا أنها لا تنتهي إلى الوصف بالوضع؛ كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “نكته على ابن الصلاح” (1/ 500، ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)؛ فيكون هذا الحديث بذلك شاهدًا لما سبق، وقد استشهد به الحافظ السخاوي في “المقاصد الحسنة” (1/ 271، ط. دار الكتاب العربي) على مشروعية التهنئة بالشهور والأعياد.
وهذا كله يدل على أن دعاء المسلم لأخيه عقب إتمام الصلاة بالقبول هو من المستحبات الشرعية؛ إذ لا يخفى أن الصلاة من أعظم العبادات التي يُدعَى بقبولها، وأن أداءَها مِن أعظم النعم التي يُهنَّأ بحصولها.
ودعاء المسلمين لبعضهم بقبول الصلاة عقب الفراغ منها ليس بدعًا من القول، بل هو أمرٌ مضت به سُنّة المسلمين وجرت عليه عادتهم وأخذه خلفهم عن سلفهم، ولم يحرمه أو ينكره إلا نابتة هذا العصر؛ جهلًا أو قصورًا عن إدراك مقاصد الشرع الشريف:
قال الشيخ أبو عبد الله ابن بطة العُكْبَري الحنبلي في كتابه “الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة” (ق: 89/ أ، مخطوط كوبريللي 719هـ): [أما ترون أن الرجل من المسلمين قد صلى الصلاة فأتمها وأكملها، وربما كانت في جماعة وفي وقتها وعلى تمامٍ من طهارتها، فيقال له: صليتَ؟ فيقول: قد صليتُ إن قبلها الله، وكذلك القوم يصومون شهر رمضان؛ فيقولون في آخره: صمنا إن كان الله قد تقبله منا. وكذلك يقول مَن قَدِم مِن حجِّه بعد فراغه من حجه وعمرته وقضاء جميع مناسكه؛ إذا سئل عن حجه إنما يقول: قد حججنا ما بقي غيرُ القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم ودعاء بعضهم لبعض: اللهم تقبل صومنا وصلاتنا وزكاتنا، وبذلك يلقى الحاج فيقال له: قبل الله حجك وزكى عملك، وكذا يتلاقى الناس عند انقضاء شهر رمضان، فيقول بعضهم لبعض: قبل الله منا ومنك. بهذا مضت سنة المسلمين، وعليه جرت عادتهم، وأخذه خلفهم عن سلفهم] اهـ، وفي المطبوع سقطٌ يسير.

حكم قول المصلي لمن يجاوره حرمًا بعد الصلاة
أما قول “حرمًا” فهو دعاء بالصلاة في الحرم الشريف؛ أي: رزقك الله صلاةً في حرمٍ؛ فتكون “حرمًا” منصوبة على نزع الخافض، أو دعاء بأن يتقبل الله الصلاة كقبولها في الحرم الشريف؛ فتكون “حرمًا” نائبًا عن المفعول المطلق بيانًا للنوع، وقد جرت العادة أن المصلي إذا قال لجاره “حرمًا” أن يَرُدَّ عليه بقوله: “جمعًا”، والمعنى: الدعاء للداعي أن يقبلهما الله تعالى جميعًا؛ أي: ولك بمثل، أو أن يجمعهما في حرمه؛ فهو حالٌ على كل حالٍ.
وهذا من مُستحسَن الدعاء، وهو في معنى الدعاء بالقبول؛ لأن الصلاة في الحرم مظنة القبول وفيها مضاعفة الثواب مائة ألف مرة، وفيه إظهار الشوق إلى حرم الله ومقدساته، وفي الدعاء بـ”جمعًا” امتثالٌ لقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه.
وقد جاء في الحديث فضل الدعاء ومظنة قبوله إذا تصافح المسلمان:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بَيَدِ صَاحِبِهِ، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَحْضُرَ دُعَاءَهُمَا وَلَا يَرُدَّ أَيْدِيَهُمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا» أخرجه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى في “مسانيدهم”، والضياء المقدسي في “الأحاديث المختارة”.
ولذلك نص الفقهاء على استحباب اقتران المصافحة بالدعاء:
قال الإمام النووي في الأذكار” (ص: 266، ط. دار الفكر): [ويُستحبّ مع المصافحةِ: البشاشةُ بالوجه، والدعاءُ بالمغفرة وغيرها] اهـ.
وقال العلَّامة الخطيب الشربيني في “مغني المحتاج” (6/ 18، ط. دار الكتب العلمية): [وتُندَب المصافحةُ مع بشاشة الوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها للتلاقي] اهـ.
وهذا هو الحاصل في عرف الناس وعادتهم؛ حيث يجمعون بين المصافحة والدعاء عقب الصلاة، وهما أصلان جاء الشرع بهما وحث عليهما؛ لإشاعة الألفة والمودة بين المسلمين، ودعاء بعضهم لبعض، بل وجاء الشرع باستحباب اقترانهما كما سبق.

الخلاصة
بناءً على ذلك: فالمصافحة بين المصلِّين عقب الصلاة مشروعة مستحبَّة؛ لِمَا فيها من استجابة الدعاء، ولِمَا تثمره من تقوية أواصر الأخوة والمودة والألفة بين المصلين.
كما أنه يشرع دعاء المصلين لبعضهم عقب الفراغ من الصلاة بما تيسر من عبارات الدعاء؛ مثل: “تقبَّل الله”، أو “حرمًا” و”جمعًا”، أو غير ذلك، ولا يجوز إنكاره شرعًا؛ لأن الدعاء مشروع بأصله، وإيقاعه عقب الصلاة آكد مشروعيةً وأشدُّ استحبابًا، فإذا كان من المسلم لأخيه فهو أدعى للقبول، وبذلك جرت سُنّةُ المسلمين سلفًا وخلفًا، وإنكارُ ذلك أو تبديعُ فاعله ضربٌ من التشدد والتنطع الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى