أحمد حسن عوض يكتب: فاصل ونعود أسامة الحداد بين الاغتراب ومنازلة العالم
أسامة الحداد أحد أبرز الأصوات الأصيلة المتفردة في المشهد الشعري المنفتح على قصيدة النثر المصرية بكل ما تحمله من تعدد يفضي إلى الاختلاف والتميز في أحيان قليلة وتكرار وتشابه في أغلب الأحيان.
وقد استهل أسامة الحداد تجربته الإبداعية بكتابة قصيدة التفعيلية كغيره من شعراء قصيدة النثر الكبار، ونشر قصائده التفعيلية الأولى في عدد من الدوريات والمجلات المصرية كمجلة إبداع ومجلة شعر في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن المنصرم.
ومن قصائده المائزة في هذا السياق قصيدة "الغروب" وقصيدة "توغلات في ماء يابس" التي جعلها أسامة عنوانا لديوان من ديوانيه التفعيليين اللذين ظلا حبيسي أدارجه المغلقة دون نشر؛ لأنه انعطف بإبداعه إلى فضاء قصيدة النثر حين رآه أكثر رحابة وأشد اقترابا من رؤيته الحديثه؛ فانخرط في كتابة مجموعاته الشعرية في القالب النثري واحدة تلو الأخرى، وأصدر بتدفقه الإبداعي المعهود وخياله الشعري المعطاء ثمانية دواوين هي على الترتيب: شرور عادية ٢٠٠٨ وأن تكون شبحا ٢٠١٠ وألعاب صغيرة ٢٠١٣ والعشوائي ٢٠١٦ وميدان طلعت حرب ٢٠١٦ ومتاح للمشاهدة ٢٠١٦ والطريق يعود إلى الخلف ٢٠١٨ و"فاصل ونعود" وهو ديوانه الأخير الذي يعد امتدادا لتجربته الفارقة في ديوانيه: العشوائي ومتاح للمشاهدة اللذين يتجسدان بحمولاتهما المعرفية والرؤيوية في متن الديوان بشكل عام، وتحديدا في قوله عبر تقنيةالتناص مع الذات التي لا تنفي- في الآن ذاته- تقنية التناص مع الآخرين واستحضار عوالمهم والجدل معهم، بقدر ما تؤكد حضور الذات الشاعرة التي تستحتضر ماضيها الشعري الممتد منذ بداية كتابة قصيدة النثر وحتى لحظة كتابتها الحاضرة هنا والآن:
"والألوان المتناثرة مجرد صيحة، أطلقها شاب غامض، وتركها في الهواء،
كمشنقة صالحة للاستخدام،
أو عشوائيا يعيد الحكاية بذاكرة مقلوبة،
ويترك وجهه متاحا للمشاهدة على منضدة جانبية،
يتجول وحده غالبا، وهو العائش في أرض غربته"
لتتجلى لنا تجربة أسامة الحداد عند الانخراط في معاينة الفضاء الشعري لديوانه "فاصل ونعود" وندرك أننا أمام تجربة إبداعية مركبة ممتدة، تنمو من الداخل وتتحرك فيها الأنا الشاعرة باعتبارها أنا جسورة تنتمي في جذورها البعيدة إلى ملامح الرومانتيكية الإيجابية التي أشار إليها يانكو لافرين في كتابه الرومانتيكية والواقعية متحدثا عن رومانتيكية جان جاك روسو المولعة بمشاكسة العالم وتمجيد الفوضى ومفصلا ملامحها المغايرة للرومانتيكية السلبية المنشغلة باجترار أحزانها الخاصة والمنزوية في كهوف الوحدة المنسية.
وإذا كان جان جاك روسو قد صاغ عوالمه السردية في إطار هيمنة الطبيعة وحضورها الطاغي المناؤي للمدنية الحديثة وزيف عالمها المصطنع فإن أسامة الحداد قد تجذر في لحظته التاريخية المعاصرة بالرغم من شعوره بالاغتراب العميق فيها، لكنه في الآن ذاته كان حريصا على إعادة صياغة العالم عبر ذات شاعرة متمرسة قادرة على إذابة الفواصل الجامدة والقفز فوق أسوار المدركات العرفية الثابتة والحدود الصارمة بين شخوص العالم الحقيقية والمتخيلة، وكائناته الحية، وجماداته، ومفاهيمه وتصوراته، ومعتقداته، وسرديايته التاريخية ومشكلاته المعاصرة.
وكأني به يجسد أسطورة الشاعر الخالدة باعتباره طفل العالم المدلل الذي يجلس إلى طاولته الخاصة- التي هي طاولة العالم الحديث في الوقت ذاته- ويقوم بإخراج هذه الكيانات المتعددة المترواحة ما بين التجسيد الحسي والتجريد الشديد من جراب ألعابه الكبير؛ ليضعها أمامه ويجعلها تمارس اللعب الحر صانعة علائق جديدة مبتكرة وأبنية مجازية طريفة عبر خيال جسور منطلق.
لكنه خيال محكوم بفلسفة موحدة ورؤية فردية تحلق بجناحين من الحقيقة الصادمة، وتنضح بالأسى المكتوم؛ لندرك أن هذا الطفل المدلل قد شاب قبل الأوان من هول ما رأى.
وأصبح عجز الشاعر لدي أسامة حداد وانعدام قدرته على التأثير في الآخرين أو حتى إضاءة الطريق لهم أو والائتناس بهم مجسدا في لاوعيه العميق عبر معادل بصري ناوش خياله -دون أن يقصد إلى ذلك فيما أتصور- يتجلى فيه عمود الإضاءة باعتباره معادلا بصريا لحالة الشاعر في اللحظة الراهنة:
عمود إنارة كالح بلا ذراعين، يبحث عن وظيفة تناسب مؤهلاته،
وعيادة لتجميل ملله
ويحلم بمصباح على رأسه المبتور"
لكن ذلك التصور المضمر والموجع -في آن- لا يجعل
أسامة الحداد يذهب من
أحد الطرفين إلى الآخر بل
إنه يستمر في مواجهة مكر
العالم الحديث بمكر مضاد،
ومنازلة عبثه المخاتل بعبث فاضح، ويراوح بين الاحتجاج الغاضب والاحتجاج الساخر، وينطلق في لعبة تبادل الأدوار وإعادة توزيع المهام على كائنات العالم من جديد.
ثم يمضي معاقرا قصيدته على طريقة أبي نواس قديما في بيته الشهير: "دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء".