✍ : بقلم الدكتور الشريف عبد الحليم العزمي الحسيني
ذكر الذهبي وابن هشام وابن كثير وصاحب السيرة الحلبية وصاحب السيرة الشامية : روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبـو داود وابن ماجة بروايات متعددة ، قال أنس في رواية ثابت: (نهينا في القـرآن أن نسأل رسول اللهﷺ عن شيء، كان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع).
وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما سمعنا بوافد وقد كان أفضل من ضمام ابن ثعلبة، بينا رسول الله ﷺ متكئا جاءه رجل من أهل البادية، قـال ابـن حجر :
سنة تسع، على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، أي : قيده، وقال: أيكـم ابن عبد المطلب؟ وفي رواية: أيكم محمد؟
والنبي ﷺ متكي بين ظهرانيهم، فقالوا: هذا الأمغر المرتفق، أي: الأبيض المشرب بحمرة المتكئ على مرفقه، فدنا منه، وقال : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك.
قالﷺ : (لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك)،
فقال: يـا محمـد أتانـا رسولك، فقال لنا : إنك تزعم أن الله أرسلك، قال : (صدق)،
فقال : أسألك بالذي خلق السموات والأرض ونصب هذه الجبال، الله أمرك أن نعبـده وحـده ولا نشرك به شيئا، وأن ندع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: (اللهم نعم).
قال : أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإلهه من هو كائن بعدك، الله أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس؟
قال : (اللهم نعم).
قال : أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنـا؟. قال : (اللهم نعم).
قال : وأنشدك الله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قـال: (اللهـم نعم ) ..
قال : أنشئك الله آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا ؟ قـال : (اللهم نعم).
قال : فإني آمنت وصدقت، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. ، وفي رواية : ثم ولى فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد علـيهن ولا أنقـص منهن شيئا،
فقال رسول اللہ ﷺ : (إن صدق ليدخلن الجنة، فقه الرجل).
عودته لقومه :
******************
فأتى بعيره، فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فـاجتمعوا إليـه فكان أول ما تكلم به : بئست اللات والعزى. فقالوا : مه يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون.
فقال : (ويلكم!! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعـث رسـولاً وأنزل عليه كتابا، فاستنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم بـه ومـا
نهاكم عنه).
فلم يبق من القوم رجل ولا امرأة إلا وأسلم.
زاد ابن سعد : (وبنوا المساجد، وأذنوا بالصلوات).
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه – يقول : (ما رأيت رجلاً أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة).
من سبقت له الحسنى يكفيه قليل الحكمة :
*****************************************
يعلق الإمام أبو العزائم في كتابه (النجاة) على هذا الوافد فيقول رضي الله عنه : (لا تعجب من حال هذا الرجل المدهش الذي لم يسمع مـن رسـول الله ﷺ إلا كلمة هي : حرف جواب، وهي : اللهم نعم، كيف رجع وهو كامل اليقين، ينطق بالحكمة العالية، تخرج الكلمة من فيه فتخرق القلوب، وتجذب النفـوس، فـان الحق تنزهت ذاته كاشف أهل الحـسـنـى يـوم «ألست» (الأعراف: ۱۷۲)
بمصون جماله، وعلىٌ جلاله حتى شهدت النفس وتصورت أسرار الربوبيـة ، ولكن دواعي البشرية، ومقتضيات الآدمية سترت هذا العلـم المـصـون عـن الإنسان، فإذا سمع الحكمة انفتق رتق هذا الحجاب، وخر العقل ساجدا لربـه وسارعت النفس منيبة إليه سبحانه، وظهر مكنون العلم مصورا على جـوهر النفس، واقشعر الجلد، واضطرب القلب، ثم لان الجلد، واطمأن القلب بذكر الله تعالی .
فأهل الحسني السابقة بينما يكون الرجل منهم في ظلمات البعد، وإذا به قـد بلغ مقامات الصديقين بكلمة من الحسني يسمعها، أو بإشـارة مـن الـعـارف يفقهها، أو بنفس من أنفاس واله واجد يتنفسه .
وإنما رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم وورثتهم نـور مـشرق لأهـل ، البصائر والقلوب، لمن لهم أعين يبصرون بها، وآذان يسمعون بهــا، وقلـوب
يفقهون بها، ولا تعجب ممن كانوا يـؤذون رسـول الله ﷺ، فبـيـن النـور والظلمة مباينة، وبين الحق والباطل مفارقة، ومن جهل شيئا عاداه) .
لذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه : ⬇️⬇️
يراني مـن دعـى لـوصـال طـه
فيحظـى بالقبـــــــول وبالمقـــاخر
وينأى عـن شــهودى كـل خـب
جهـول نافـر أو كـل كـافر
جمال مـشـرق مـن نـور طـه
تحجب بالطلاســـم والــستـــــائر
فبشـــراكم برؤيـا الـحـسـن جهـرا
لقـذ نلتــم مقامـات الأكـابر
وفد الداريين (تميم الداري وأصحابه) :
***********************************
ذكر ابن كثير وصاحب السيرة الحلبية وصاحب السيرة الشامية والإمام أبوالعزائم : قدم وفد الداريين على رسول اللہ ﷺ منصرفه من تبـوك وهـم عشرة نفر، منهم تميم الداري وأخوه نعيم ابنا أوس بن خارجة، وكانوا علـى دين النصرانية، فأسلموا وحسن إسلامهم .
— وكان وفدهم عليه ﷺ مرتين، مرة بمكة قبل الهجرة، ومرة بالمدينة بعـد الهجرة.
ففي المرة الأولى سألوا رسول الله ﷺ أن يعطيهم أرضا من أرض الشام، فقال لهم رسول اللہ ﷺ : (سلوا حيث شئتم)، فقال تميم : لنا جيرة من الروم لهـم قريتان، يقال لإحداهما حبري، والأخرى بيت عينون، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي. قالﷺ : (فهما لك). ثم دعا بقطعة من أديم، أي: جلد، وكتب لنا کتابا نسخته : ⬇️⬇️
[ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه مـا وهـب محمـد رسول اللہ ﷺ للداريين، إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهـم بيـت عينـون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أبد الأبد ] ، شـهد بذلك عباس بن عبد المطلب، وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنة، ثم أعطاناكتابنا، وقال : انصرفوا حتى تسمعوا أني قد هاجرت، فانصرفنا ..
فلما هاجر ﷺ إلى المدينة قدمنا عليه، وسألناه أن يجدد لنا كتابـا آخـر فكتب لنا كتابا نسخته : ⬇️⬇️
[ بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطـي، أي: أعطـى محمد رسول اللہ ﷺ لتميم الداري وأصحابه، إنى أنطيـتكم بيـت عينـون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه السلام برمتهم وجميع ما فيهم، نطيـة بيـت ونفذت، وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم آذاه الله ] ،ثم أشهد على هذا الكتاب جمعا كان منهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلى .
حديث الجساسة :
*********************
وأخرج مسلم في صحيحه : عن فاطمة بنت قيس قالـت: سـمعـت نـداء المنادي، أي: منادى رسول الله ﷺ ينادي : الصلاة جامعة. فخرجـت إلـى المسجد، فصليت مع رسول الله ﷺ. فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول اللہ ﷺ صلاته، جلس على المنبر وهـو يـضحك،
فقال: (ليلزم كل إنسان مصلاه)، ثم قال: (أتدرون لـم جمعـتكم ..؟ ) قـالوا : الله ورسوله أعلم.
قال: (إني، والله !! ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم؛ لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع واسلم، وحدثني حديثا وافـق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحريـة مـع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفئوا، أي : التجئوا، إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في اقرب السفينة، أي : سفينة صغيرة تكون مع الكبيرة يتصرف فيها الركاب لقضاء حـوائجهم .
قال : فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا : ويلك! ما أنت؟ فقالت : أنا الجساسة. قالوا: ومـا الجساسة؟
قالت : أيها القوم ! انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبـركم بالأشواق.
قال : لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة.
قال : فانطلقنا سراعا، حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قـط خلقـا، أي : جثة ، من وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديـد، قلنـا ويلك ! ما أنت؟ قال : قد قدرتم على خبرى، فأخبروني ما أنتم ؟
قالوا : نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية…. وحدثوه خبرهم.
فقال : أخبروني عن نخل بيسان (قرية بالشام) هل يثمر؟
قلنا له : نعم ،، قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر .
قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية (بالشام) هل فيها ماء؟ قالوا : هي كثيـرة الماء. قال : أما إن ماءها يوشك أن يذهب.
قال: أخبروني عن عين زغر (في الجانب القبلي من الشام) هل في العـين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هـى كثيـرة المـاء، وأهلهـا يزرعون من مائها.
قال : أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟
قالوا : قد خرج مـن مـكـة ونـزل يثرب.
قال : أقاتله العرب؟ قلنا : نعم.
قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنـه قـد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم.
قال : أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه, وإني مخبركم عنى: إني أنا المسيح، وإنـي أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قريـة إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان على كلتاهما، كلمـا أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صـلتا، أي : مسلولاً، يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها). والنقب هو : الطريق الضيق بين دارين لا يستطاع سلوكه.
قالت فاطمة بنت قيس : قال رسول اللہ ﷺ، وطعـن بمخـصرته في المنبر : ( هذه طيبة، هذه طيبة)، يعني : المدينة، (ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟)، فقال الناس: نعم،
فقال: (فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنـت
أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو)، وأومـا بيده إلى المشرق.
قال القاضي : لفظة (ما هو) زائدة، صلة للكلام، ليست بنافية، والمراد إثبات أنه في جهة الشرق.
دروس وأحكام :
*****************
١- جاء وفد الداريين لرسول اللہ ﷺ وهو بمكة – وأصحابه يعذبون من صناديد الكفر – يطلبون منه أرضا بالشام ولم تسلم له مكة بعد، فيقـول لـهـم : (سلوا حيث شئتم)، وهذا طلب غريب وجـواب مـحيـر، فوفـد الـداريين –
النصارى – يطلبون بعلم، لأنهم يعلمون أن دعوة النبي الخاتم سيمكن لها فى الأرض، ورسول اللہ ﷺ يجيبهم بعلم أيضا، فهو القائل فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لي منها).. وكان الأمر على ما وعدهم به رسول الله ﷺ
وفي ذلك معجزة له، وهو من اعلام نبوتهﷺ .
۲- قالت فاطمة بنت قيس : (فكنت في صف النساء التي تلى ظهور القوم)، وهذا دليل على أن النساء كن يصلين خلف الرجال بلا حجاب من ستار بناء، كما يفرض بعض الجهلاء ذلك على النساء اليوم في المساجد، بل كانـت المرأة تكلم الخطيب وتصحح له إن أخطأ، كما حدث مع سيدنا عمر *
قضية المهور حيث ردّته امرأة، فقال: (أصابت امرأة وأخطأ عمر).
٣ — في قول الصحابة: (الله ورسوله أعلم) رد واضح وجلي علـى الـذين ينكرون أن رسول اللہ ﷺ يعلم بعلم الله، ويقولون: الله أعلم فقط، متجـاهلين قوله تعالى: «وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } (النساء : ۱۱۳)
٤ — في رواية رسول الله ﷺ الحديث عن تميم الـداري جـواز روايـة الفاضل عن المفضول، والمتبوع عن التابع، وفيه منقبة عظيمة لتميم الداري▪︎
